من ديوان: “أفراح مؤجلة” للشاعر حسين مهنا

من: د. نزيه قسيس

** بين نصين

التناصّ، هو تداخل بين نصين، أي: دمج نص خارجي في نص القصيدة، وذلك لغاية فنية ومعنوية، وهنا، يقوم الشاعر بتضمين البيت (سئمت تكاليفَ هذي الحياة)، وللتدليل على ذلك، يضعه بين قوسين. هدف التناص هو الحوار مع   النص الكلاسيكي، فبينما يعبر زهير عن السأم والتعب من “تكاليف الحياة” و طولها، يعبر الشاعر مهنا عن “التعب” من التفكير في “هذي” الحياة وتناقضاتها وآلامها. يُلاحَظ أن الشاعر أضاف كلمة (هذي) داخل نص زهير للتوكيد على نوعية هذه الحياة المتعبة التي يعيشها الانسان في هذا العصر.

**أسئلة الحياة

تكمن رسالة القصيدة في جواب ذات الشاعر على أسئلته وتساؤلاته ، وهي: “تبسم…!”، وتظهر هذه الرسالة في “البداية” وفي “النهاية”  وخلاصتها: أيها الانسان لا تفكر وتتعب عقلك وروحك وقلبك بالأمور المؤلمة والقبيحة؛ ولا تفكر بالحساب والعقاب والثواب، واترك الأسئلة عن الحياة وما قبلها وما بعدها بلا جواب، وباختصار: تبسم للحياة ما دمت فيها؛ عش حياتك بدون أسى وكآبة؛ وخلّ الجمال يسافر فيك! بهذه البداية وهذه الخاتمة تلتقي وتتوافق رسالة ذات الشاعر حسين مهنا مع رسالة ذات الشاعر إيليا أبي ماضي التي تدعو إلى التفاؤل

**مقدمة

تقوم هذه الدراسة بقراءة تحليلية بنيوية لقصيدة “تبسم…!” من ديوان “أفراح مؤجلة” للشاعر حسين مهنا (2017). يقوم التحليل بعملية استكشاف مجهرية للنصوص تشمل المبنى الخارجي والداخلي للقصيدة ودلالات الألفاظ والتقنيات الفنية التي تتفاعل ببعضها لتقدم، مجتمعةً، جوهر التجربة الشعرية ومضامينها وعلاقتها بنصوص أخرى وكيفية تأثيرها على مشاعر وتفكير القارئ وتنويره برسالتها. تتبنى الدراسة المصطلحات النقدية العربية الكلاسيكية والحديثة والمستحدثة التي رافقت تطور الشعر العربي الحديث، الذي تنتمي إليه قصيدة “تبسم…!”

**مبنى القصيدة

من أجل تحليل القصيدة وتفسيرها، وفهمها جيدا، تمّ تقسيمها إلى قسمين:

• النص الخارجي وهو ما يسمى بالعتبات النصية، وهي علامات نصية تقع خارج النص ولكنها مرتبطة به، وتشمل: عنوان القصيدة، مكانها وزمانها. 

• النص الداخلي، وهو النص الرئيسي ومَتْن القصيدة، وينقسم إلى قسمين:

• القسم الأول: يبدأ بالسطر الأول وينتهي بالسطر “لها ألف باب وباب” الذي تتبعه علامة النجمة (* ).

• القسم الثاني: يبدأ بعد النجمة (* )  بكلمة: “تقول”، وينتهي مع نهاية القصيدة.

**النص الخارجي: العـتبات النصِّية

1. العنوان

يتكون العنوان من كلمة واحدة (تَبَسَّم…!) متبوعة بثلاث نقاط (…) وعلامة تعجب (!)، والعنوان نصٌّ قائم بذاته ولكنه مرتبط بما يليه من القصيدة، ويوحي بحديث مُتخيَّل جرى ما قبل ولادة القصيدة. لغويا، العنوان فعل أمر يوحي بوجود شخصيتين هما: المتكلم والمتلقي، وهذا يوحي بوجود “حوار ” بين الشخصيتين.

2. المكان 

تنتهي القصيدة بإشارة إلى مكان كتابتها وهو “البقيعة”، مسقط رأس الشاعر، والمكان الذي يعيش فيه، وهي قرية جبلية ذات طبيعة تبعث على التأمّل، وتتفاعل فيها معتقدات السكان الدينية ومسالكهم الاجتماعية وآراؤهم الفكرية.

ت) الزمان

يشير الشاعر في نهاية القصيدة إلى أنه انتهى من كتابتها في 18/5/2013 ويشير تظهير الكتاب أن تاريخ ولادة الشاعر هو 1945 ومن مقالة كتبت عنه في صحيفة “الاتحاد”، نجد أن تاريخ ولادته هو 16/6/1945 وهذا يعني أن الشاعر كتب القصيدة قبيل عيد ميلاده الثامن والستين بشهر تقريبا، وعيد ميلاد الانسان، خاصة في السبعينات، يدفعه إلى التفكير بقضايا الحياة والموت وما قبلهما، وما بعدهما، وهو الموضوع الأساسي في القصيدة. إذن، المكان، والزمان لهما دور وأهمية في فهم القارئ لأفكار وأحاسيس الشاعر وموقفه من المواضيع التي تعالجها القصيدة.

**النص الداخلي: القسم الأول

يتكون القسم الأول من النص الداخلي من ثلاثين بيتا تشكل سلسلة من خمس مقطوعات حوارية متوالية مختلفة في عدد وطول أبياتها. يعتمد هذا التقسيم على اكتمال الفكرة في المقطوعة وليس على عدد أبياتها، وتقوم الدراسة بتحليل كل مقطوعة من حيث معناها ومبناها مع ابراز التقنيات الفنية التي تمتاز فيها تساهم في نقل التجربة الشعرية.

• المقطوعة الأولى : الأبيات (1-4)

تشكل المقطوعة الأولى بداية القسم الأول من النص. أسلوبيا، تقوم أبياتها الأربعة  بتقديم “موضوع القصيدة” بلغة حوارية بين طرفين هما: الشاعر/ المتكلم وذاته التي، نفهم من سياق النص، أنها سألته : لماذا سئمت الحياة؟ فيجيبها:

أقول لذاتي

أنا ما (سئمت تكاليفَ هذي الحياة..)  ولكنْ، تَعِبْتُ.

تَعِبتُ من الفِكر يأكلُ منّي حَصاتي.

يبدأ الشاعر حواره بالفعل (أقول) في صيغة المضارع فيخلق مشهدا حيّا نتخيله حاضرا أمامنا، ويؤكد لذاته أنه “ما سئم تكاليف الحياة” ولا طول العمر ولكنه تعب من “الفكر” الذي “يأكل” منه حصاته، أي يتعب عقله.

 التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة:

1. القافية النهائية بين الكلمتين (لذاتي/ حصاتي) والقافية الداخلية بين الكلمتين: (سئمتُ / تعبتُ)، والقافيتان تضفيان موسيقى هادئة تتناسب مع هدوء مشاعر الشاعر/ المتكلم في حواره مع ذاته.

2. الجناس الاستهلالي، وهو “تكرار” نفس الحرف في بداية عدة كلمات مثل حرف الهمزة (أَ)  في الكلمتين : (أنا)، (أقول).  

3. التكرار المُعاد، وهو تكرار كلمة وردت في نهاية السطر في بداية السطر التالي، مثل  تكرار (تعبت) (في نهاية السطر الثالث وبداية السطر الرابع) والتكرار هنا للتوكيد على “تعب” المتكلم من التفكير.

4. إيقاع التفعيلة الناتج عن ترديد تفعيلة (فَعولن/ ب  – -) وهي تفعيلة القصيدة المركزية، التي يرتكز عليها  بحر المتقارب، وهو بحر شعري هادئ الايقاع.

5. التشخيص المتمثل في تحويل ذات الشاعر غير المرئية إلى شخصية تتكلم،  وذلك يوحي بثنائية الانسان، فالمتكلم “شخصية” والذات” شخصية أخرى، مما يؤكد على الطابع الحواري للقصيدة.

6. الإشارة أو التلميح في قول الشاعر: أنا ما (سئمت تكاليف هذي الحياة …). والاشارة هنا  إلى قول زهير ابن ابي سلمى في معلقته: (أمِن أمّ أوْفى …) :

            سئمت تكاليف الحياة ومن يعش      ثمانين حولا لا ابا لك يسأم

7. التناصّ، وهو تداخل بين نصين، أي: دمج نص خارجي في نص القصيدة، وذلك لغاية فنية ومعنوية، وهنا، يقوم الشاعر بتضمين البيت (سئمت تكاليفَ هذي الحياة)، وللتدليل على ذلك، يضعه بين قوسين. هدف التناص هو الحوار مع   النص الكلاسيكي، فبينما يعبر زهير عن السأم والتعب من “تكاليف الحياة” و طولها، يعبر الشاعر مهنا عن “التعب” من التفكير في “هذي” الحياة وتناقضاتها وآلامها. يُلاحَظ أن الشاعر أضاف كلمة (هذي) داخل نص زهير للتوكيد على نوعية هذه الحياة المتعبة التي يعيشها الانسان في هذا العصر. 

• المقطوعة الثانية: الأبيات (5-11 )

تقدم هذه المقطوعة أسئلة وتساؤلات الشاعر حول قضايا حياتية فلسفية مجردة يصعب تعريفها، فيقول:

تُرى ما الحياةُ

وما الموتُ..؟

ما الحبُّ

ما الحرْبُ؟

ما الخيرُ

ما الشرُّ

ما الكُفرُ ما الاثم؟

يُلاحَظ أن هذه المقطوعة تطرح فكرة المَثْنوية، أو الثنائية التي يعيش بها الانسان وهي ثنائيات وجودية يحتار عقل الانسان بها، ولهذا، تسبب له القلق والتعب والحيرة.

• التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة:

1. المناجاة والسؤال البلاغي: يمزج الشاعر هنا بين المناجاة، وهي محادثة الانسان مع نفسه، والسؤال البلاغي، وهو سؤال يطرحه المتكلم دون أن يتوقع ردّا عليه ولكنه يدفع المتلقي إلى التفكير به. تبدأ كل الاسئلة بكلمة (ما) الاستفهامية متبوعة بمصطلحات “ثنائية” التركيب “متناقضة المعنى” عن “الحياة والموت”، “الحب والحرب”، “الخير والشر”.

2. الابيات المزدوجة المكونة من كلمتين لهما نفس القافية المختلفة عن قافية المزدوج الذي يليه :

– قافية المزدوج الأول (تاء) مضمومة: (الحياةُ) ( الموتُ)

– قافية المزدوج الثاني ( (باء) مضمومة : (الحبُّ) (الحربُ)

– قافية المزدوج الثالث (راء) مضمومة (الخيرُ) (الشرُّ)

– قافية المزدوج الرابع: غير متماثلة غير أن كلمة “الكفرُ” تتقفى مع المزدوج السابق “الشرُّ”، ولكنها لا تتقفى مع “الاثمُ”.

3. الأنافورا anaphora أو التكرار الاستهلالي للكلمة أو العبارة في بداية كل بيت كما نرى في تكرار الكلمة الاستفهامية (ما) أربع مرات، وهذا التكرار يعبر عن حيرة المتكلم وإلحاحه على ذاته بأن تعطيه أجوبة على أسئلته.  

• المقطوعة الثالثة: الأبيات (12-17)

تستمر المقطوعة الثالثة بتقديم أسئلة جديدة ولكن في صِيَغ استفهامية أخرى بالكلمتين: (كيف ؟) و (هل ؟)

كيف يكونُ الحسابْ

وهل من ثوابٍ وهل من عقابْ!؟

وهل يا تُرى من شَهقة أعلنَت عن وجودي

وأخرى سَتُعلن يوما غيابي

وأن وجودي بهذي الحياة

شهابٌ خفيتُ الوميضِ سريعُ الغيابْ؟!

تتركز التساؤلات في ثلاثة مواضيع هي:

• الحساب والثواب والعقاب

• مجيء الانسان إلى هذا الوجود والغياب عنه

• طول العمر وقصره

• التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة:

1. القافية النهائية بين الكلمات (الحساب/ عقاب/ الغياب) والقافية الداخلية المتمثلة بالكلمات (ثواب/ عقاب / شهاب) وهذا التناوب بين القافية النهائية والقافية الداخلية يضفي موسيقى تقسيمية متناوبة تتحوّل إلى ترنيمة جميلة الإيقاع على أذن القارئ او السامع وتعبر عن ثنائية  الفكرة التي يتساءل عنها المتكلم.

2. السؤال البلاغي والأنافورا: ومثال ذلك تكرار الكلمتين (كيف) و (هل) المتكررة في بداية البيتين الثاني والثالث، فهما أسئلة بلاغية والتكرار يؤكد على حيرة الشاعر.

3. الجَرَيان enjambment  وتشير هذه التقنية إلى استمرار الجملة من بيت شعري سابق في بيت شعري لاحق  وتتمثل هنا في استمرار البيت الثالث من المقطوعة حتى السادس حيث يكتمل المعنى، وهذه تقنية مستحدثة في الشعر الحديث.

4. الطباق ويشير هذا المصطلح إلى استعمال الشاعر لكلمة ما ثم مقابلتها  بنقيضها ولذلك تسمى أحيانا “المقابلة العكسية” ومن أمثلتها: “ثواب” و “”عقاب”، “وجودي” و “غيابي”، “خَفيت” و “سريع”.  كل هذه التقنيات تؤكد وجود ثنائيات متناقضة في الحياة.

5. المقابلة المترادفة، ويشير هذا المصطلح إلى تكرار الفكرة بكلمات أخرى كما نرى في العبارتين: (وهل يا تُرى من شَهقة أعلنَت عن وجودي/ وأخرى سَتُعلن يوما غيابي)، والمعززة هنا بتقنية الطباق بين (وجودي وغيابي).

• المقطوعة الرابعة: الأبيات (18-26)

تعكس هذه المقطوعة حيرة الانسان وجهله لماهيته وأصله، وللتعبير عن ذلك يتكئ الشاعر/ المتكلم على “صبره الجميل” على غموض هذه الحياة، فيستعمل كلمات الاستفهام “من”، و “همزة الاستفهام” في “أمِن” ؟ و “أم مِن”؟

وأسأل صبري الجميل

أُسائل دربَ العذابْ

تُرى مَن أنا؟

ومن أين جئتُ

أمِن عالم الجن إنْسا بُعثت

أم انّي إنس يغيبني الليل شيخًا

ويبعثني الصبحُ طفلا طريءَ الإهاب

أم انّي لا ذا ولا ذاك

إني تراب تراكم فوق التراب!؟

تبدأ هذه المقطوعة بعبارة ” تُرى من أنا” وهي ترديد لنفس العبارة في مطلع المقطوعة الثانية، وتطرح تساؤلات الانسان الذي يريد ان يدرك الحقيقة من “ذاته” من “نفسه” عن “ذاته” وعن نفسه وأصله – أصل الانسان عامة: هل هو جن بُعث إنسانا أم أنه إنسان حوله “الليل”، رمز الموت، إلى “شيخ” كي يموت جسديا، ليعود في “الصبح”، رمز الحياة والولادة والانبعاث، “طفلا طريء الإهاب؟”

إن تساؤل الشاعر/ المتكلم حول غياب الانسان (شيخا) في الليل، وعودته وانبعاثه (طفلا) في الصباح، إشارة إلى انتقال الروح من جسد إلى آخر، وهذه ربما إشارة  إلى فكرة “تناسخ” او “تقمص” الأرواح التي “يؤمن” بها الشاعر أو “يتساءل” عنها وربما “يتشكك” فيها في تساؤله:

أم أني لا ذا ولا ذاك

إني تراب تراكم فوق التراب!؟

فهو محتار، إذن، ويتساءل: هل الانسان ابن الطبيعة، كما يقول داروين وآخرون، وأن جسد الانسان “من التراب وإلى التراب يعود”؟  تجدر الملاحظة  هنا إلى أن من يقرأ البيتين التاليين:

ترى من أنا ؟

ومن أين جئت…

يتذكر حالا قصيدة الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي “الطلاسم” التي يقول فيها:

جئتُ لا أعلم من أين

ولكني أتيتُ

ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا

أم أبيتُ

كيف جئت؟

كيف أبصرت طريقي ؟!

لست ادري

• التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة:

1. تكرار الكلمة المشتقة، وتظهر هذه التقنية في البيت الأول والثاني من المقطوعة حيث يقول الشاعر” وأسأل” وفي البيت التالي “أسائل” فهما من نفس الجذر، وكذلك “بُعثت”، و”يبعثني”، فهما من نفس الجذر وتتكرران في نفس المقطوعة وهذه وسيله للتعبير عن نفس المعنى بطرق مختلفة، والتنويع اللفظي يؤكد المعنى ويزيد في موسيقية التعبير.

2. الجناس الاستهلالي او التكرار الحرفي المتمثل في تكرار حرف (الجيم) في بداية الكلمتين (الجن) و (جئت)  وكذلك تكرار حرف الطاء (ط ) في بداية الكلمتين (طفلا) ، (طريء)، وحرف التاء (ت) في مستهل الكلمتين: (تراب)، (تراكم)، وهذا التكرار له تأثير موسيقي على أذن القارئ ويشده إلى الاصغاء والاندماج بالقصيدة.

3. السؤال البلاغي والأنافورا، والتقنيتان مستخدمتان معا في تكرار الكلمة أو العبارة في بدايات أبيات متعاقبة ومثالها: (ومن)، (أمن)، (أم أني) ، (أم أني) وهذه الأسئلة البلاغية تثير تفكير القارئ وتدمجه بالقصيدة.

4. الطباق وهو جمع ألفاظ متعاكسة المعنى ومن أمثلته هنا: “يغيبني” و “يبعثني”، “الجن” و “الانس” ، “الليل” و “الصبح”، “شيخا” و “طفلا” فكلها ألفاظ متعاكسة تؤكد ثنائية الحياة التي نعيش فيها وتعيش فينا.

5. توارد الخواطر أو (المُوارَدة) وهو مصطلح يشير إلى تشابه وتوافق القول حول فكرة معينة بين شاعرين في زمنين مختلفين، ويظهر هذا التشابه بين الشاعر حسين مهنا في هذه المقطوعة مع الشاعر إيليا أبي ماضي في قصيدة “الطلاسم” حول حيرته بما يتعلق بمجيئه، مجيء الانسان، إلى هذه الحياة وجهله لمصيره بعدها، وهذا يدل على توافقهما وتقاربهما في نظرتهما إلى الحياة والوجود، ولا شك أن الشاعر هنا يشير إلى تلك الفكرة وهو يعتمد على معرفة القارئ بها، كما أشار إلى قصيدة زهير ابن أبي سلمى في بداية القصيدة.

• المقطوعة الخامسة: الأبيات (27-30)

يصل الشاعر/ المتكلم أوج حيرته في هذه المقطوعة  إذ أنه يشعر أنه يسير في الظلام، وأن الانسان حقا نوع من “الطلاسم”، فيتضرع إلى الله قائلا:

إلهي…!!

لماذا أنا غُرفٌ مظلماتٌ بلا أيّ باب

وحينا أنا غرفةٌ من زجاج

لها ألفُ بابٍ وبابْ؟

حيرة المتكلم هنا تعبر عن حيرة الانسان عامة فهو يشعر حينا أنه “غرف مظلمات” “بدون أبواب”، لا يَرى، ولا يُرى، وحينا غرفة شفافة”  من زجاج،  “يَرى” منها و “يُرى” فيها من ألف باب وباب!

• التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة:

1. الابتهال وهو نوع المناجاة يقوم فيها المتكلم بالتوجُّه إلى  مخاطبة “الله” بقوله: إلهي…! طالبا نجدته وهدايته إلى الحقيقة ويعبر عن تساؤله باستعمال السؤال البلاغي: لماذا أنا…..) .

2. الاستعارة التصريحية وهي تشبيه  حُذف أحد طرفيه، وهنا توجد استعارتان فيهما صورتان متعاكستان هما: “أنا غرفٌ مظلماتٌ”، وهي استعارة وكناية عن عدم قدرة الانسان على الادراك المطلق لنفسه. الاستعارة الثانية هي: “وحينًا، أنا غرفةٌ من زجاج”، وهي كناية عن وضوح الرؤية التام، والصورتان توحيان بثنائية الانسان المتناقضة، بين الظلام والنور والمعرفة والجهل والشفافية والانغلاق.

**النص الداخلي: القسم الثاني

يتكون القسم الثاني من النص الداخلي من مقطوعتين متفاوتتين في الطول ولكنهما تكوّنان وحدتين معْنَويتين رئيسيتين متداخلتين بالمعنى والمبنى:

المقطوعة الأولى: الأبيات ( 1- 4)

تقدم المقطوعة الأولى وصفا لحالة ذات الشاعر وتعريفها بنفسها، وهي تلعب دور الشخصية العالمة ببواطن الأمور والاسرار الخفية، أو ربما تمثل الشخصية التي تتجنب التفكير في القضايا التي لا جواب لها، وهي تعطي حلا عمليا يخلص الشاعر والانسان عامة من قلقِه وحيرته وأسئلته العديدة:

تقولُ: وقد حرَّرَتْ نفسَها من أساها/ أسايَ

ومن تَبعاتِ الجوابْ

أنا أنتَ يا مَن جَعَـلتَ هَـنائي

أسىً واكتئابْ.

كما نرى، تبدأ المقطوعة بالفعل (تقول)، وهو الفعل المقابل والموازي للفعل (أقول)  في السطر الأول من القسم الأول، وهنا يتذكر القارئ أنه ما زال أمام مشهد الحوار بين  الشاعر وذاته. تقوم ذات الشاعر بحسم الموقف باختصار وبنبرة انتقادية وتقول:

أنا أنتَ يا من جعلتَ هنائي

أسى واكتئابْ.

إذن، “ذات” الشاعر و”عقله ” هما اثنان في واحد، “أنا أنت” وهي تتهم الشاعر/ المتكلم أنه هو سبب شقائه وشقائها بتفكيره،  فهو يتعب عقله ويتعب ذاته،  وتنصحه بعدم التفكير وطرح الأسئلة التي لا جواب لها. نلاحظ هنا أيضا الإيحاء بثنائية الانسان المكونة من “العقل” و”الذات”، فالعقل يسبب الأسى  والذات (الروح) المتفائلة والقانعة والمتأقلمة والراضية هي التي تستمتع بالحياة.

• التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة: 

1. القافية الداخلية المتمثلة في الكلمتين (أنت/ جعلت)

2. الطباق المتمثل في المقابلة العكسية بين (هنائي / أسى و اكتئاب).

3. تكرار الكلمة بمشتقاتها المتمثل في الكلمات: (أساها)، (أساي)، (أسى)، وهذه تقنية أسلوبية بلاغية تضفي تنويعا موسيقيا على العبارة وتوكيدا على المعنى عن طريق ترديد ألفاظ متشابهة.

4. تكرار الحروف الساكنة المتمثل في تكرار حرف (التاء) في الكلمات : (تقول)، (حررت)، (تبعات)، (جعلت)، (اكتئاب) وهذا التكرار يضفي موسيقى توكيدية تعكس التنوع الشعوري  لدى المتكلم.

• المقطوعة الثانية: الأبيات ( 5-10)

تتكون هذه المقطوعة من ستة أبيات تشكل “مقولة القول” التي تقولها ذات الشاعر وتعطي فيها حلا روحانيا وسلوكيا يزيل كل شكاوى ومتاعب الشاعر/ المتكلم  وينقذه من حيرته وعذابه من تناقضات الحياة، وتقول:

“تبسم…!”

وخَلِّ الْجَمالَ يسافر فيك،

نداءاتِ نايٍ

فضاءاتِ حُبٍّ

وبوحَ ربابْ.

تَبَسَّمْ… وخلِّ سُؤالَك هذا بِدونِ جَوابْ.!

• التقنيات الفنية التي تمتاز بها هذه المقطوعة:

1. التشخيص المتمثل في العبارة الارشادية (خل الجمال يسافر فيك) ، فالشاعر يصور الجمال أنه سائح يسير في مناطق النفس البشرية، والفعل (يسافر) يعبر عن الحركة والحيوية في النفس الجميلة.

2. الاستعارات التصريحية المتمثلة في الصور التشخيصية في الأبيات: خل الجمال يسافر فيك (نداءات ناي)، (فضاءات حب) و (بوح رباب)، وهذه صور صوتية فيها تشخيص حركي، فالجمال يصبح “صوت ناي” جميل جنون يداعب الروح عن طريق الأذن. كذلك، الصورة الثانية (فضاءات حب) صورة بصرية توحي بالأماكن الفسيحة حيث يلتقي الأحبة ويسيرون مستمتعين روحا وجسدا. الصورة الثالثة (بوح رباب) أيضا صورة صوتية تشخيصية للربابة التي تبوح بحب المحبين، والبوْح يكون عادة هادئا وهامسا يلامس شغاف القلب وأعماق الروح.

3. المعادل الموضوعي، وهو مصطلح يُشير إلى الأوصاف الرمزية المدرَكة بالحواس التي تُستخدم للتعبير عن مفاهيم وعواطف مجردة. تشكل الاستعارات  (نداءات ناي، فضاءات حب، بوح رباب) معادلات موضوعية للجمال والحب والحنان والفرح والتفاؤل.

**رسالة القصيدة

تكمن رسالة القصيدة في جواب ذات الشاعر على أسئلته وتساؤلاته ، وهي: “تبسم…!”، وتظهر هذه الرسالة في “البداية” وفي “النهاية”  وخلاصتها: أيها الانسان لا تفكر وتتعب عقلك وروحك وقلبك بالأمور المؤلمة والقبيحة؛ ولا تفكر بالحساب والعقاب والثواب، واترك الأسئلة عن الحياة وما قبلها وما بعدها بلا جواب، وباختصار: تبسم للحياة ما دمت فيها؛ عش حياتك بدون أسى وكآبة؛ وخلّ الجمال يسافر فيك! بهذه البداية وهذه الخاتمة تلتقي وتتوافق رسالة ذات الشاعر حسين مهنا مع رسالة ذات الشاعر إيليا أبي ماضي التي تدعو إلى التفاؤل وجمال روح الانسان واستمتاع الانسان في حياته وتقول: “كُن جميلا تر الوجود جميلا!” و”تمتع بالصبح ما دمت فيه!” كذلك، تلتقي هذه الرؤية التفاؤلية عند الشاعرين مع رؤية الشاعر الروماني هوراس/Horace ( 65-8 ق.م.) الذي دعا في احدى قصائده الى الاستمتاع بالحياة في عبارته المأثورة Carpe diem التي تعني “اغتنم الفرصة” وتمتع بجمال الحياة وجمال الانسان ولا تتعب عقلك في مجيئك ورحيلك عنها، ونحن نتفق معهم ونقول:  لنفرح الآن وهنا وقبل فوات الأوان فحياتنا قصيرة وأفراحنا أفراح غـير مؤجلة!