رومانسية الشاعر حسين مهنا في مجموعته “الكتابان”

من: د . منير توما

يبرز الشاعر حسين مهنا في مجموعته الشعرية “الكتابات” من أقدر الوصّافين دقةً، وأوسعهم صورةً، وأبعدهم مرمى من خلال رومانسيةٍ أخّاذة تتناغم مع نفسيةٍ صافيةٍ رفافة…

رومانسية الشاعر حسين مهنا في مجموعته “الكتابان     

منيرتوماالأثنين 1/8/2011

يبرز الشاعر حسين مهنا في مجموعته الشعرية “الكتابات” من أقدر الوصّافين دقةً، وأوسعهم صورةً، وأبعدهم مرمى من خلال رومانسيةٍ أخّاذة تتناغم مع نفسيةٍ صافيةٍ رفافة، تزخرُ بصورٍ رائعةِالإيحاءِ، حافلةٍ بالحياةِ والرونقِ حيثُ يُصَعِّدُ في تخيُّلهِ، ويمعنُ في تجربتهِ الشعوريةِ، وفي ذهولهِ التشخيصي بحركةٍ عاطفيةٍ مشبوبةٍ، ولا غروَ في ذلك فهو يقدّمُ في افتتاحية مجموعته هذه إقتباسًا من “نشيد الأنشاد” يوحي بمدى تعلّق الحبيب بمحبوبته وشوقه إليها، وبالتالي تتجسدُ الرومانسية في قصائدِ هذه المجموعة بوضوحٍ ظاهرِ لا لبسَ فيه، يتجلى أولا وأخيرا في انتصار الحب مع كل ما في ذلك من تواترات وملابسات على صعيد النفس والجسد.
ومن ضمن القصائد الكثيرة التي استهوتني من مجموعة” الكتابان” قصيدة “لا تخرجي من ضلوعي” (ص7) التي تجسّدُ الوحدةَ في الحب وتعكسُ الفيضَ النفسي لدى الشاعر الذي يتلهف فيه إلى المحبوب، ويضمّه بمُجْمَ لكيانه، في حنانٍ ورقةٍ وذوب عاطفة، وينقله إلى ذاته، فإذا المحبوب فيه عاملٌ وجود يٌينقلُه من ذاته المضطربة إلى ذات وادعة يطمئن فيها إلى السكينة الغامرة الساحرة،فهو يقول مخاطبًا الحبيبة:
سيّان عندي إذا عاقَبَتْني الحياة بحبِّكِ
أو كافأتني
سأعطيك شكل الألهات
والشعر شكل الصلاة
فقد آن للعشق
أن يستعيدالبخور الإلهيّ
عند العناق النبيل،
وشمس الأصيل تسير بطيئًا.. بطيئًا..
لتُسْعِد في بطئها عاشقين
إن المحبوب هنا هو كل ما في الكون من جمال وإشراق وطيب، هو إندفاق الشاعر بكل ما عنده من رؤى، وكل ما عنده منوحي، وكل ما يدرك عقله من جمالات، وكل ما تصبو إليه نفسه من أحلام، هو هذا الكائنالذي يشترك الكون كله في السؤال عنه والاهتمام له، والتقاط الأنفاس عند ذكره، فهو في موقع الألوهة في نظر الشاعر.
وهذا التذوق الفنيّ للشاعر يبدو وكأنّ وجودالشاعر لم يبدأ إلا يوم كان المحبوب محبوبًا، ويوم إندفقت نفس المحبوب في نفسه،ووجوده لن يدوم إلا بدوام كينونة المحبوب محبوبًا، وبدوام إندفاق نفسه في نفس الشاعر. وها نحن نسمع شاعرنا يقول في نهاية القصيدة:
أنا أنتِ
لا تخرجي من ضلوعي إلى (تابُهات) العقيدة..،
لا تسألي الحبّ،
أو تسأليني.
فليسط يُساءَلُ حبٌّ
متى سيزور
وكيف يزور… وأينْ؟!
كذلك تظهر روح “نشيدالأنشاد” الرومانسية البحتة في قصيدة “لا تعذليني” (ص 13) التي تمتاز بالعنصرالموسيقي في التعبير الذي يضيف إلى الإيحاء ويقوّي من شأن التصوير، فالكلمات فيهاهي عبارة عن صور إيحائية، وفي هذه الصور يعيد الشاعر إلى الكلمات قوة معانيهاالتصويرية الفطرية في اللغة، إذ الأصل في هذه الكلمات أنها تدل على صور حسيّة حيث يستغرق الشاعر في تجربته، والكشف عنها هو غايته لأنّ عمله استجابة إلى شعوره قبل أن يكون تلبية لفكرةٍ. وهكذا تتسلسل الكلمات من روحه، ومن قلمه، عذبة، رقيقة، لينة،ناعمة، وتتلاحق الألفاظ والعبارات نغمة ساحرة، ونجوى بعيدة الصدى حيث نلمس أنالشاعر يشعر وهو في ذروة حسّه، أن الجمال يذوب بين يديه، وهذا ما تعكسه القصيدةبكاملها حين يقول/
تمُرُّ يديّ،
على جيدك المرمريّ
فيزهر وردٌ
على وجنتيكِ
وينطق صمتٌ
يفوق بيان الكلام
وسجع الحمام
وهمس المطر
كأني إذا ما نظرت إليكِ
يقول الفؤاد: أحبُّكِ..
لا تعزليني
إذا ما أطلتُ النظرْ.

ومن اللافت في قصيدة “تقيمين في ضِحكتي” (ص 17) أنّ الحبيب الذي يتغزل به شاعرنا يخلقه خلقًا فنيًا أكثر مما يصفُهُ وصفًا غراميًا، وهنا يظهر الغزل الأنيق والبعيد عن التبذل، ذلك الغزل الذي يتشح بالجمال فكرًا وعاطفة ومرمى، لا نكاد نتعثر بلفظة تحطّ من شأن الروح، وتطلعات الروح في الحبيب، فالكلمات والمعانيفي هذه القصيدة ذات طبيعة غنيّة، شديدة التدفق، شديدة العطاء تجتمع فيها الواقعيةوالرمزية والوجودية بطريقة فريدة، أخاذة حيث أنّ الإيجاز في هذه القصيدة يمنحها قوةمن الإشراق والتوهج. فهو يختزل المعنى الذي يرمي إليه مكثّفًا إياه في عدة سطورتشكّل القصيدة بذاتها حيث يقول:
تُقيمين في ضحكتي ليلكًا
يهزمُ الموتَ
أسألُ: هل تخرجين،
لأبقى على راحة الموت قلبًا،
يجفّ قليلاً.. قليلاً
على عتبات القصيدة؟!
رجوتك..
لا تهجري ضحكتي
،
قد يضيع الكلام – إذا ما هجرتِ
ويسقط شعري ميتًا
على صفحات الجريدة.
وهكذا، نرى من خلال هذه النماذج القصيرة من مجموعة “الكتابان” أنّ شاعرنا الأستاذ حسين مهنا قد توافر له في تجربته الرومانسية هذه صدق الوجدان الذي عبّر من خلاله عما يجده فينفسه، ويؤمن به، فهو استطاع أن يضفي على تجربته من شعوره وتصويره وأخيلته القوية ماينفذ به إلى ما فيها من معانٍ جمالية أو إنسانية. وبقوة الملكة الشعرية أستطاع شاعرنا أن يجد موضوعات للتجارب الصادقة في كلّ ما حوله حين خلع عليها من إحساسه،وفاض عليها من خياله. وفي هذه لا بد من قدرة شعرية متميزة لتنقل هذه المشاهدالغزلية الإنسانية والنفسية إلى عالم الشعر بقوة الإحساس والتصويرالفني.
فلأستاذنا الشاعر الكريم أجمل التهاني وأطيب التمنيات بالتوفيق الدائموالعطاء المستمر وبالمزيد من الإبداع.
*************************

كفرياسيف