القصيدة: ألا ليت لي خافقًا منْ خزف!! حسين مهنا

من: د. فاروق مواسي

القصائد التي كتبها الشعراء عن الابنة، نادرة، وأندر منها- إن لم تكن معدومة- تلك القصيدة التي تتحدث عن الابنة في يوم زفافها…

القصيدة: ألا ليت لي خافقًا منْ خزف!! حسين مهنا “إلى نبيلة”

…وحينَ بكيتِ،
وقُلتِ وداعًا..
تذكرتُ ذات صباحٍ جميلٍ،
غداةَ وُلدت..
تذكّرت أَني وعدتُ القمرْ
بألا تكوني أشدّ نقاءً وأبـهى
فكذبتِ وعدي،
وكنتِ..
وأذكُرُ أني وعدتُ الزّهر
بألا تكوني أحب وأشهى
فكذبت وعدي..
وكنت..
وأذكر أني وعدتُ صفاء النهر
وأني وعدت اخضرار الشجر
وأني وعدت وفاء المَطَرْ
فكذبت كل وعودي
وكنت أرقَّ وأندى
وأنضر عودًا وقدًا..
وكنت..
بُنيّة!!
إني أراك بثوب الزِّفاف،
أراك كما رأيتك ذات صباح جميل-
غداة وُلدت
أراك تموئين خلف الزجاج-
ملاكا طريء الجناح،
وخلف الزجاج تشدين وجهك
نحو الحياة..
وثغرُك يرضع نسغَ الدّقائق..
يومًا..فيومًا..
نسجت الحياة بنَوْل الجمال شبابًا وريفَ الظلال
وفير الغلال
ينيع الثمر
بُنية!!
مهما ابتعدت
تظلي بصدريَ ضلعًا لصيقًا
لقلب يرف على مُقلتيك
رفيفَ النسيم قبيل السحر.
ومهما كبرت..
تظلي بعيني
كما قد رأيتك خلف الزجاج-
غداة وُلدت…
سلام عليك غداة وُلدت-
وحين نسجت الحياة شبابًا
وفي كل حين
وأنى ارتحلت
وأنى حللت
ومهما هجرتِ..
وعُذرًا..
لأني وعدتُ القمر
غداة ولدت،
بألا تكوني أشدّ نقاءً وأبـهى
فكذبت وعدي..
وكان الضياء
وكان البهاء
وكان الوفاء
وكان الصفاء
وكنت..
 
   1993.7.28
نشرت في ديوان الحب أولا-  (1995 )  -ص109
 
قراءة في القصيدة
القصائد التي كتبها الشعراء عن الابنة، نادرة، وأندر منها- إن لم تكن معدومة- تلك القصيدة التي تتحدث عن الابنة في يوم زفافها.
وقصيدة الشاعر حسين مهنا- “ألا ليت لي خافقًا من خزف”- لون جديد في شعرنا- في موضوعها وفي أدائها، فهي تروعنا بصدقها وانسيابيتها وعفويتها، يقدمها الشاعر إلى ابنته “نبيلة”.
يبدأ الشاعر قصيدته بنقاط …. هي إشارة إلى أن الكلمات واتته بعد استرسال معاناة ومحاولة كظم للحزن، فينطقها الشاعر:
…وحين بكيت
وقلت وداعاً…
ولفظة “وداعًا” بحد ذاتها تثير الشجن، فكيف إذا انطلقت من ابنة عزيزة عاشت أيامها بطفولتها وشبابها الغض وعنفوانها في ظل عائلة تحضنها بكل الحب والحميمة.
ومع “وداعا” يتذكر الراوي الشاعر زيارته لمستشفى الولادة قبل عقدين، حيث كانت “تموء” الطفلة خلف الزجاج، فيذكر فرحته بها-  فرحته بهذا الملاك الذي جاء لينافس القمر والزهر والنهر والشجر والمطر- بكل عطائها.
ورغم أنه وعد عناصر الطبيعة تلك أن تبقى مثلاً أعلى في طاقاتها وبهجتها وعطائيتها فإنه يرى في “نبيلة” ما يفوق في هذه العناصر، وما يكذب هذه الوعود التي تعهد بها في محراب الطبيعة.
يعيدنا الشاعر إلى طفولة ابنته، حيث كان ثغرها يرضع نُسغ الدقائق، وتكبر فتزداد جمالاً وشبابًا، وهذا الجمال يعتز به الأب كما يعتز بشبابها وريف الظلال ووفير الغلال. إنها الإنسانية الصادقة على لسان أب شاعر لا يرى في جمال ابنته وحيويتها وشبابها مأخذًا أو أمرًا يسوقه للحياء في الحديث عنه أمام مجتمع ما زال يرى في المرأة عورة –بنسبة لا يستهان بها- فحبه لها عميق مهما ابتعدت، وستظل وكأنها تلك الطفلة التي كانت، وهي في حلها وترحالها يرعاها هذا الأب، ويدعو لها بالسلام، ويجعلها رمزًا للمعاني الجميلة من ضياء وبهاء ووفاء.
وإذا كان المضمون مُشْبعًا بهذه الأبوة الرقيقة الحانية فإن العاطفة تتبدى لنا وكأنها حلة العروس الشفافة فهي تتأجج لدى الراوي الشاعر بدءًا من العنوان الموحي بهذه المعاناة الأبوية، لأن خافق الأب من لحم ودم، وهو لا يحتمل هذه الفرقة المرغمة، فليت له خافقًا آخر وليكن من خزف، ولكنه سرعان ما يفطن إلى الحقيقة فيقول بعاطفة جيّاشة معتزة:
 
بنية!!
مهما ابتعدت…
تظلي بصدريَ ضلعًا لصيقًا
لقلب يرف على مقلتيك
رفيف النسيم قبيل السَحَرْ
ثم إن التذكر بحد ذاته فيه خلجات عاطفية خفيفة، يعلن عنها الأب في رحلة صمته من خلال متابعته لخط سير عمرها وللمراحل التي اجتازتها، وبعد أن تفاجئه حقيقة كبرها ، وأنها في بدلتها البيضاء، يقول معاندًا وكأنه هو الطفل –هذه المرة:
 
ومهما كبرت
تظلي بعيني
كما قد رأيتك خلف الزجاج
غداة ولدت…
 
وتقضي العاطفة أن يلجأ الشاعر إلى تكرار يموسق الكلمات ويرنّمها دمعة تلو دمعة بتساوق رقيق رهيف:
 
تذكرت…تذكرت
فكذبت…
وكنت…
وأذكر…
أني…وكنت
بنيّة…
مهما … ومهما … ومهما
وأني … وأنـي
وكان…
وكان…
وكان…
وكان…
وكنتِ…
 
ويبدو لي إن الكلمات المكرورة وحدها تصوغ قصيدة أو تشكلها في شحنات تختفي وراء النص كأنها نشيج داخلي يكفّه الفرح، أو كأنها عناق عميق يدافعه أضطرار للتسليم بالواقع.
وهذه الموسيقية التي أُديَت عبر التكرار أضفاها البحر المتقارب في قصيدة من الشعر الحر الذي لا يخضع لتساوي التفعيلات. وهي هنا مصداق يؤكد ضرورة مثل هذا الشعر في تبيان الصدق النفسي والشعوري.
فانظر إلى توقفه عند السطر:
 
                       وكنتِ
فإنك واجد أن كل إضافة قد تقتل هذا الزخم الشعوري الذي أداه الاكتفاء.
والكلمات في القصيدة منتقاة لتؤدي هذه الموسيقية، ففيها تجانس صوتي وتناغم، وخاصة في ياء المد، نحو:
 
   … شبابًا وريف الظلال
   وفير الغلال
   ينيع الثمر
أو:
   … رفيف النسيم قُبيل السحر
 
لن أفتعل التصور بأن هذه الياء تماثل صوت البكاء الذي يُسمع في مثل هذا الموقف، بل أؤكد أن الإيقاع كان متوترًا، ولا يهمني هنا إن كان الإيقاع داخليًا أو خارجيًا- في مصطلحات النقد.
والآية الكريمة: ((وسَلامٌ عليه يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حيَّا)) (سورة مريم-15) وردت على لسان الشاعر بأداء مغاير وفي خدمة مؤدى مستجد:
 
سلامٌ عليك غداة ولدتِ
وحين نسجت الحياة شبابًا
وفي كل حين
وأنّى  ارتحلت
وأنّى  حللت.*
———-  
* ومن باب الشيء بالشيء يذكر، أُشير إلى أنني قد أفدت كذلك من هذه الآية الكريمة في قصيدة لي بعنوان “الستة في حوار”- (ديوان: يا وطني) وهي تدور حول حكاية ما جرى في “يوم الأرض” فقلت:
 
“فسلام يوم صرخنا
وسلام يوم صرخنا
وسلام يوم سنبقى أقوى”.
 
   وهذا الصدى القرآني جملّه الشاعر في السطرين الأخيرين بالمطابقة اللغوية المعروفة (الحل، والترحال) غافلاً عن موضوع الموت الوارد في النص الأصلي، فعكسه الشاعر –بحق- إلى معنى شباب الحياة التي نسجته.
وإذا كانت الألفاظ منتقاة بموسيقيتها فإنها توائم كذلك –في كثير منها- واقع الحال، فالشاعر يخاطب ابنته:
نسجت الحياة بنول الجمال شبابًا وريف الظلال
فهنا “النسيج” و “النول”، ولأن النسيج يطول عادة زمنيًا فإن البيت الشعري امتد في نَفَس أطول.
ومن الألفاظ المعبرة عن جو الطفولة العذبة:
 
تموئين خلف الزجاج
 
وهذه الألفة في “تموئين” يحسّها الأب من خلال معاينة، وحتى “طريء الجناح” فإنه يحسّها من خلال ملامسة لهذه النعومة والغضاضة.
الخيال في القصيدة:
كثيرًا ما انعكس الخيال في الأدب العربي القديم، من خلال التشبيهات، ومنها ما هو على غرار قول أبي بكر الخالدي:
 
يا شبيه البدر حسنًا          وضياءً    ومنالا
وشبيه الغصنِ لينًا            وقوامًا واعتدالا
أنت مثل الورد لونًا          ونسيمًا وغلالا
 
كما عرفنا التشبيه المقلوب الذي عمدوا إليه في المبالغات والغلو على نحو ما قاله محمد بن وهيب الحميري:
 
وبدا الصباح كأن غرته           وجه الخليفة حين يُمتدح
 
ويقرب من هذا النوع ما ذكره الحلبي في كتاب “حسن التوسل” وسماه “تشبيه التفضيل” –وهو أن يشبه بشيء لفظًا أو تقديرًا ثم يعدل عن التشبيه لادعاء أن المشبه به أقل، نحو:
 
حسبت جمالها بدرًا منيرا
                    وأين البدر من ذاك الجمال ؟
 
لكن شاعرنا يأتي بتشبيه مركب، فبدلا من أن يقول عنها- وبصورة مباشرة- أنها نقية وبهية كالقمر، فإنه يجري هذا الحوار الحميم بينه وبين القمر، فيعده بأن تظل له مكانته وهيبته، لكن الابنة النقية البهية تفوق القمر فيعترف أنها هي السبب في التجاوز:
 
فكذبت وعدي
 
وهكذا تستمر تشبيهاته المركبة بحيوية الطبيعة الدافقة الغارقة في جمالها، وهو ينأى عن أركان التشبيه المطروقة، ويغادر تقاليد البلاغة الآسرة التي قد تقيد من حركة أخيلته. تتنامى الصور لديه، وتتكامل بما يخدم رؤيته، وتتآزر لتقدم بُنى  فكرية وخلجات عاطفية تتجدد مع كل قراءة.
 
وأخيرًا،
 
فهذه قصيدة أوردتها ترجمانـًا لخافق أب- خافق ليس من خزف- وتسجيلاً أمينًا لما يضطرم بين جوانحه. وقد أدى الشاعر معانيـه ملبسًا إياها حلل اللفظ الرائق الشفاف كبدلة العروس، فرفع بذلك قيمة التعبير والصياغة، وقدم أبعادًا إيحائية ودلالية في  رباط محكم من البنى الفنية والشعورية.