كسر نمطيّة الشخصيّات الغيريّة

                        في رواية “دبيب نملة” لحسين مهنّا

مساءٌ هادئ كالمحتفى به رغم العصف والأنواء، مساءٌ يأخذني من يدي، ويسير بي الهوينا إلى هناك، صعودًا صعودًا إلى ذاك الزمان الذي جمعني به، وذاك المكان  الذي احتفى بكتابِ شابّةٍ صغيرةٍ تشقّ طريقها بين العثرات، إلى ذاك البيت (بيت حسين مهنّا) الذي فتح قلبه واستقبلني، إلى تلك القريةِ التي تلامس الأفقَ بناسِها، إلى كبارٍ كنت أقرأ لهم في الصحف، وإذ بهُم لا يمثلون أمامي فقط، بل ويقرأون لي، ويحاورونني، ويأخذون بيدي، آهِ سالم جبران، يا من أحبّ بلاده كما تحبّ الأمّ ابنها المشوّها، وأحبّ أبناءَ شعبه فكبروا به، إيه حسين مهنّا ويتّسع القلب وتضيق الخيمة، إيه أيّتها الأماكن، لكِ نبضُك، ورائحتك، وصوتك وصورتكِ؛ لكِ حنينٌ يعاودنا ويراودنا ويكتبنا ويكبتنا ويحرّرنا إذا ما عشقناكِ وبُحْنا…

 هي البقيعةُ السببُ، من زارها زالَ العجَبُ

البقيعة هي العجب، وأهلها هم السبب

كيف لا والطبيعةُ تحتفي هناك؟ فمن أيّ نافذةٍ تُطِلّ، ترى يدَ الله وقد خلقتِ الجَمالَ، ومن أيّ داليةٍ تتدلّى القطوف تذوق شِعرًا مشتهى، شِعرَ مُهنّا، ومن أيّ قافيةٍ له تنهلُ، تقول: “طلعت الميّ من باب الطاقة”، وإذا أصخيتَ السّمعَ فدبيب نملةٍ سيلاحقك ليرويَ لك الحكاية.

ولا بدّ للحكايةِ الأدبيّة أن تُسقى من تجربة معتّقة معيشةٍ، إنْ لم تكن تجربة ذاتيّة فغيريّة، وربّما فيها من الذاتيّة المتستّرة أكثر ما فيها من التحليق في المخيّلة، وإلّا فما العلاقة بين أبي صابر الذي كان الاسم الحركيّ للكاتب حسين مهنا، يختفي خلفه وينشر قصائده وقصصه في الجرائد، وبين صابر في رواية دبيب نملة؟ فبقدر البُعد الظاهر للروايةِ عن السيرة، نراها في التأويل تحتضن جانبًا من هذا الجانر.

هذا ما شعرته وأنا أقرأ رواية “دبيب نملة” للكاتب الشاعر الصديق ابن البقيعة الشاعر حسين مهنّا.

العنوان

ولنتّجه نحو “غواية العنوان” على حدّ تسمية بروفسور محمود غنايم في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه[1]، فلماذا أطلق حسين مهنّا على روايته “دبيب نملة”؟ والدبيب في “لسان العرب”: “دبّ النمل وغيره من الحيوان على الأرض، يدّبًّ دَبًّا ودبيبًا: مشى على هينته”؛ والدبيبُ فعلٌ يترك أثرًا، ألم يقل الشاعر: 

ولمٌا شربناها ودبّ دبيبها   إلى موطن الأسرار قلت لها قفي.

العنوان فيه إعمالٌ لحاسّتيْن: حاسة السمع التي تسمع الدبيب، وحاسّة النظر الّتي ترى النمل.

وظيفة العنوان إذًا إيحائيّة تومئ إلى ما قد يختفي في النصّ، لكنّها لا تحدّده بشكل لا يقبل التأويل، وعليه فإنّ القارئ المتمرّس مدعوُّ للمشاركة في الإنتاج، والبحث في الرواية لمحاولة سدّ الفجوة الأولى التي واجهها، ومعرفة الدبيب والأثر الذي تركه، والاحتمالات كثيرة، منها: 

الحياة دبيب نملةٍ؛ الإصرار دبيب نملة؛ العملُ دبيبُ نملةٍ…ويجرّنا الراوي في الرواية صفحات، حتّى نصل مرادنا صفحة 77، عندما قال العمّ صابر لسباعي: “لا تستعجل الأمور يا عزيزي، فما أشبه عملَنا بعمل النملة البطيء، والتغيير في المجتمع لا يأتي بكبسة زرّ، ولا يكون إلّا بعد تراكم كميّ يتحوّل إلى نقلة نوعيّة”، إذًا هذا هو القول الذي جاءت الرواية لتقوله، والرسالة التي حملها النصّ، لذلك كانت عنوان النصّ بوظيفته الإيحائيّة، وهنا تكمن أهمّيّته رغم تنكيره وإفراده وتأنيثه.

الشخصيّات:

فهل الرواية روايةُ خُلاصةٍ لعطاءِ فترة زمنيّة، والأثر الذي تركه هذا العطاء/الدبيب، أم هي روايةُ مجتمعٍ، أم إنّها روايةُ شخصيّةٍ، رواية “البطل” الملقّب بالسباعيّ، وكلّ ما حصل معه في حياته؟

ومع كلّ صفحةٍ تتأكّد لدينا الإجابة: الرواية ليست رواية “السباعيّ”، فالسباعيّ باللقب الذي حمله نتيجة ولادته قبل الأوان، هو شخصيّة تمثيليّة، تمثّل شريحة ولو كانت حينها صغيرة، من أولئك الذين وُلدوا اجتماعيًّا وسياسيًّا قبل أوانهم، وُلدوا “سباعيّين”؛ نضجوا قبل أوانهم في المجتمع، وتمتّعوا ببُعد نظرٍ اجتماعيّ، سياسيّ فرضته الظروف التي سادت حينها؛ لكنّ هذا القدوم غير المتوقّع أصاب المجتمع حينها بنوع من الحيرة في كيفيّة تقبّلهم؛ “لم يخفَ على القابلة سبب صمت النسوة…ومَنْ مثلُها يعرف أسرار نساء القرية، بل أسرار النساء قاطبةً، وبماذا يفكّرنَ، تركَتْ عشرات العيون المحملقة بها وخرجَتْ؛ وبخروج آخر امرأةٍ بعد خروج القابلة سُمع صوت بكاءٍ شديد! إنّها الوالدة (سليمة) ولا شكّ.. وبكاؤها ليس بسبب الولادة وما يرافقها من أوجاع بل بماذا سيقول أهل القرية الآن!! مولود السبعة الأشهر لا يكون بهذا الحجم، ولا بهذه العافية.. يا الله! أقلّ ما سيقولونه: إنّني مْسَبّقة! قالتها وزاد بكاؤها مرارةً والمسبّقة في عُرف الفلاحين هي التي تضاجع خطيبها قبل الزواج…… عندما عاد (سالم) إلى البيت لم يُفاجأ ببكائها، بل كان يتوقّع منها ذلك.. تبسّم وقال: يا قليلة العقل! تبكين؟ وأنت بحالك أدرى والله شهيد. أخذ المولود بين راحتيه وقال:

  • ما شاء الله! جمال وعافية؛ ولكن ولادته هذه ستُلحق به الأذى سأسمّيه شدّادًا…

قالها وهو على يقين بأنّ أهل القرية قد سبقوه إلى تسميته، وأسموه (سباعي)” (الرواية ص. 3-4).

ونشأ سباعيّ يرى بعينيه آلام الناس وآمالهم، وخياناتهم، وتصرّفاتهم، ويحفظ أسرارهم وبيوتهم من الخراب، ويحاول أن يفهم ردود فعلِهم على ما يجري حولهم، وهم لا يفقهون؛ “وتمنّى لو أنّه لا يقرأ ولا يكتب لكان عاش حياته قانعًا راضيًا بأحلامه الصغيرة التي قد لا تتعدّى اللقمة الشريفة والهدمة النظيفة والسُّترة في بيتٍ مُسيَّجٍ بالكرامة” (الرواية ص. 23)، والضدّ كما نرى يُعرَف بضدّه، وما ميّزَ أهلَ القريةِ حينها أميّتهم وبساطتهم، وسطحيّة تفكيرهم، فهُم يعتبرون بدايات التنوّر في القرية نوعًا من الكفر، ونجد ذلك في ردود فعل أهل القرية على كلام العمّ صابر؛ الشخصيّة الثانويّة المساعدة لسباعي في تحقيق أحلامه وبلورة شخصيّته، صابر الذي كان يجيد القراءة والتحليل، والذي حاول تنبيه أهل البلد للمؤامرة التي تُحاك ضدّهم، فلم يستوعبوا ورموه بتهمة الكُفر، ووشوا عليه عند الحاكم العسكريّ، الذي يساوي ويوازي الكاتبُ الضمنيّ بينَه وبين رجال الدين، فالمصلحة مشتركة، رجال الدين يمثّلون السلطة الدينيّة، والحاكم العسكريّ يمثّل السلطة السياسيّة، والسلطتان تريدان شعبًا جاهلًا، مقهورًا، بسيطًا، يركض وراء لقمة العيش والمصالح الشخصيّة الضيّقة، لتبقى السلطة الفعليّة على العقول في أيديهما؛ وهذا ما تعلّمه السباعيّ في جلسته الثانية مع العمّ صابر، عندما استوعب ما قاله كارل ماركس: “إنّ الدين والمخدّر سيّانِ في التأثير السريع والشديد على الجهلة من الناس، مع فارق التشبيه”…وما قاله ابن رشد: “التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل” (الرواية ص. 32) لذلك نرى أنّ شخصيّة صابر والتي شكّلت في الرواية الشخصيّة القدوة للسباعيّ، كانت شخصيّة متّهمة بالكُفر: “وصابر الشيوعيّ المكروه من رِجال الدين والحاكم العسكريّ رأى ما لم يره الناس، وكأنّه رأى بعينِ عقلِه ما آلت إليه الأحداث بعد ذلك.. قالَ: هذه مؤامرة خطيرة تُحاك لكم، يريدونكم أن تتركوا الزراعة لتبورَ الأرض، ومن ثمّ يسهل على دائرة أراضي إسرائيل تحريشها ومصادرتها.. نُقِل هذا الكلام للحاكم العسكريّ، وطُلب صابر للتحقيق بتهمة التحريض على دولة إسرائيل!! وعندما سمع سباعي هذا الكلام رأى فيه مقولة حقّ من رجل شجاع” (الرواية ص. 25).

إذًا التعرّف إلى العمّ صابر، غيّر مسار حياة السباعيّ، وفهم من الجلسة الأولى مدى صدق فلسفة كارل ماركس بأنّه “جديرٌ بأن يخرج الإنسان من جلدهِ، ويعمل على تحقيقه، والوصول إلى الغاية المرجوّة مهما طالت، ومهما كانت القَدَم بطيئةً” (ص. 31)، وهذه إحالة ثانية إلى العنوان، وإلى دبيب القدَم الذي لا بدَّ أن يُحدثَ تغييرًا مهما كان بطيئًا، تلك الجلسة كانت المفصليّة في حياة السباعيّ، ليصبح بمصطلحات الأدب “شخصيّة غيريّة” Outsider Character[2] أي تلك الشخصيّات الخارجة عن الإجماع العامّ للمجتمع، وهذه الشخصيّات عادةً “تحتلّ دور المركزيّة والصدارة عندما تناولها تناولًا أدبيَّا، وبذلك يكون الأدب مرآة جليّة لهذه الشخصيّات ممّا قد يسهّل على القارئ مسألة التعرّف عليها والوقوف عند أهمّ مميّزاتها وخصائصها(فيّاض هيبي، الشخصيّات الغيريّة 2013)، وهذا ما فعله الأديب حسين مهنّا، وقف مدافعًا في روايته عن هذه الشخصيّات وانتماءاتها وأفكارها، دفاعًا غير مباشر، بل ترك للسرد الجميل، وحكايا القرية، والأحداث الصغيرة، ترك لها أن تشكّل الهدف الأسمى، وأن تكون كتابَ دفاعٍ يعمَّم بين الهيئات المجتمعيّة من أجل إعطاء كلّ أولئك الذي ثابروا وضحّوا حقَّهم، لذلك وبحنكةِ الكاتبِ الضمنيّ رسم تلك الشخصيّات رسْمًا جميلًا خُلقًا وخلْقًا، فسباعي حين عمل ناطورًا في الحقول تستّر على امرأة رأى وجهها يتصبّب عرقًا، وجانبًا من فخذها الأبيض وظهْر الرجل الذي يعتليها، لكنّه لم يفضحها، ولم يفضح سرّها، وحين رأته سألته عن مطلبه، فقال لها: التوبة، فتابت على يده، نرى أنّ سباعيّ يمثّل نموذجًا للشرف والحفاظ على أعراض الناس، وهذا أمرٌ مهمّ جدًّا في العلاقات المجتمعيّة، وله أكبر التأثير في نفسيّة المتلقّي كمجتمع شرقيّ محافظٍ، وكقرّاء، لحُسن تصرّف هذا الشهم الذي ستر بيوت الناس، كما ستَر والدُه من قبلهِ، بيت تلك التي راودته عن نفسها وفرَّ هاربًا لشهامته، فالشهامة تورّث ضمن ما يرثه الإنسان من حُسنِ تربيةٍ، ألم يكن ذاك حال السباعي أيضًا حين ستر ريحانة وقد قالت له: “أنتَ فارسي الذي أُسلّم له قيادي! امتطِ صهوة مهرتك” ففرّ وراح يقطع الحقول قفزًا لعلّه يطفئ جمرًا يأكل أحشاءَه.. كان يركض وصوتها يلاحقه: آسف! لا تستطيع..! يا خُنثى! يا طواشيّ! يا ابنَ الستّين كلبًا” (الرواية ص. 21-22)، وسَتَرَ عرض الرجال أيضًا، عرضَ قدّورة الذي كان “يفعلها مع عنزة”، وما كان منه إلّا أن قال لوالده: “عمّي بو قدّورة.. زوّج قدّورة”؛ إنّ هذه الحكايات وعلى بساطتها، وسردها لحياة القرية والناس حينها، إلّا أنّها بدأت تُشكّل هذا القارئ الضمنيّ، القارئ المتماهي مع شخصيّة سباعيّ والعمّ صابر، ذلك المسيحيّ الذي فتح بيته للسباعيّ وأجلسه مع عائلته، وعرّفه إلى ابنته رهام، وإلى الظروف الصعبة ماديًّا بسبب المضايقات من السلطة التي تعرّض لها العمّ صابر المتعلّم المثقّف الذي اضطُر للعمل بالمياومة كي يغطّي نفقات البيت، فكيف سيغطّي تكاليف دراسة رهام؟ لذلك آثرَتْ ألّا تتابع تعليمها لأنّ ضنك العيش وعَضّة الفقر والأقارب والمتديّنين من أقارب صابر أرادوا من البداية “كسر شوكته وردعه عن افتتاح فرع للحزب الشيوعيّ في القرية، فتحُ هذا الفرع يوقظ النائمين والساكتين عن حقوقهم” (الرواية ص. 38)، ورهام ابنة صابر كانت الحبّ الأوّل في حياة سباعيّ، وقد قالت له والدتها “لو نحن يا سباعي على دين واحد لزوّجناك رهام”، وهذه الجملة ليست عاديّة رغم تداولها، وليست حياديّة رغم تمنّعها، هي جملة فاضحة، تقول بأنّ الهدوء الاجتماعيّ والاستقرار الاجتماعيّ يعلو صوتهما أحيانًا على تلك الأصوات الإنسانيّة التي ترنّ في عقولنا، فرغم كلّ محاولات التحرّر من جهل المجتمع، إلّا أنّ الأعراف الدينيّة الاجتماعيّة ما زالت تكبّلنا، والمفاجأة في الرواية تأتي بعد زيارة الغابة الحمراء، وكسر تابوهات الحبّ، بعلاقة سباعي بنتالي اليهوديّة التي عاش معها في الكيبوتس، حتّى ضيّق أهل الكيبوتس الخناق عليها فاضطرت للهجرة بعيدًا عن حبّها، ولتحافظ على سباعي خوفًا من الأذى تركت البلاد؛ إذًا الرواية تصرخ بصمت، وتهمّ في المسير كدبيب نملةٍ، وتنبئنا عن التغييرات التي حصلت في مجتمعنا بفضل سباعي وصابر ومن يمثلان مِن شرائح مجتمعيّة، فالفتيات بدأن يخرجن للتعلّم وأولاهنّ سعاد شقيقة سباعي الذي أقنع أهله بأهمّيّة تعليمها فدخلت الجامعة واختارت التمريض وشقّت الدرب لغيرها من الفتيات في القرية، وسباعي باستقامته فتح ورشة صغيرة للسيّارات سرعان ما كبرت، وكبرت معها “ثورة العبيد على الأسياد” على حدّ تعبير أبي ساطي، الذي علّمه سباعي درسًا مؤدَّبا على قوله هذا لم ينسه طوال حياته (ص. 53)، إذًا شخصيّة سباعي الغيريّة ليست شخصيّة نمطيّة، فنحن توقّعنا سردًا لمعاناتها، لحالة الإحباط واليأس الذي من الممكن أن تعيشه بسبب انتفاضها وتمرّدها، توقّعناها شخصيّة نمطيّة نامية على ما تعوّدناه من تلك النماذج، التهوّر والكفر ومعاندة المجتمع وعدم مراعاة تقاليده، فعاكَستْنا الشخصيّة، وقلبتْ موازين توقّعاتنا، بإيجابيّاتها رغم الفقر، والرفض، والأسى والظروف الصعبة الّتي حوّلتها الشخصيّة إلى فرحٍ وسعادةٍ للآخرين، وكان اهتمامها بالغير منبع سعادة وتحقيق أحلام، فها هو تحقيق لإنجازٍ آخر من “الشخصيّات الغيريّة”، وفتح باب المنَح  للشباب الراغبين في إتمام دراستهم ولا يملكون المال، وأوّلهم سامح أخو سباعي الذي أفرح قلب والديه العجوزيْن رغم تخوّفهما بحصوله على منحة للتعلّم في “تشيكوسلوفاكيا” حينها. ومن التغييرات التي تنضح بها الرواية الموثّقة لمراحل من حياة العرب الفلسطينيين في البلاد مِن قبل 1948 وحتّى البدايات للتغييرات المجتمعيّة والسياسيّة، كانت تمرّد الشباب المعروفيّين الذين بدأوا بالتهرّب من الخدمة الإجباريّة، فهل كان سباعي درزيًّا؟ هل تختبئ ذكريات حسين مهنّا الكاتب الحقيقيّ وراء ذكريات الشخصيّات صابر وسباعيّ؟ ما هو قدْر الذاتيّة الموجودة في الشخصيّتين الغيرتيْن الموجودتيْن في الرواية؟ وكيف جعَلنا حسين مهنّا نتماهى مع سباعي، ويلمّنا الحزن في نهاية الرواية لرحيل نتالي اليهوديّة خوفًا عليه، ودعوتها له بالرحيل معها، ورفضه الأمر مردّدًا ما قاله شاعرنا سالم جبران: “كما تحبّ الأمُّ طفلها المشوَّها، أحبّها حبيبتي بلادي”، وكيف كانت ليلته الأخيرة مع نتالي تشبه حال درويش مع “ريتا”، “بين ريتا وعيوني بندقيّة، آه ريتا… بيننا مليونُ عصفورٍ وصورهْ..”، ولإغلاقه المحددة في الكيبوتس، وعودته للقرية وتسليمه المصلحة للشاب قاسم الذي كان قد أنقذه وجعله عاملًا عنده في المصلحة التي تركها بعد أن أنزل عن جدرها صورتي لينين وماركس، قائلًا علّق مكانها “وبالوالديْن إحسانًا”، وعاد ليسكن مع أمّه بعد موت الوالد.

ورغم النهايات الحزينة الّتي تتالت على القارئ الواحدة بعد الأخرى، ورغم أنّ دبيب النملة لم يُحدث صخبًا في النهايات المألوفة، إلّا أنّ الرواية التي انتهت لم تُختَتم، فالدبيب بالشرح والسرد والاستطراد، وتداخل حياة القرية بحياة سباعي، كلّ ذلك كان كفيلًا لخاتمةٍ نضعها نحن كقرّاء، تقول للشخصيّات “الغيريّة” الّتي تشبه سباعي وصابر: مرحى، فمنكم كانت بدايات التغيير في مجتمعنا الفلسطينيّ الرابض القابض على الحلم.        

راوية جرجورة بربارة

26-12-2018


[1] غنايم، محمود. غواية العنوان، النصّ والسياق في القصّة الفلسطينيّة. مجمع اللغة العربيّة، الناصرة، 2015.

[2] انظر مقالة فيّاض هيبي، الشخصيّات الغيريّة عند غالب هلسا، المجمع، العدد 7 (2013)، ص. 223.